منذ
ثلاث سنوات إلا قليلا على تبديد الوهم؛ وهم قوة لا ترعب إلا نفوساً
استوطنها الخواء، وجيوشاً تكرشت بالصمت والبلادة، ووهم استحالة كسر قيود
من أدرجوا في لوائح المؤبدات، ووهم عبثية المزاوجة بين الحكم والمقاومة..
منذ ذاك الحين إلى يوم يقترب من ساعة انجلاء العتمة وآلاف العيون تغفو
وتصحو وهي مفعمة بالأمل يغمرها اليقين بأن اللقاء بمن حكم عليهم الجلاد
الصهيوني بالغياب الأبدي بات مسألة وقت ليس إلا، وأن زمن الانتظار طال أو
قصر سينجلي كومضة برق وسيؤوب الرجال إلى ديارهم يحفهم الإباء والزهو بصنيع
حراس الكرامة في فلسطين.
عائلات الأسرى المدرجين على
صفقة الجندي الأسير لدى حماس لم يدمنوا الانتظار لأنه بات خيارهم الوحيد،
ولم تألف عيونهم الترقب لأنه واقع حالها والمسيطر على جميع تفاصيل حياتها
ابتداء من لحظة الأسر الأولى ومروراً برحلة العذاب والصبر الشاقة في مسلسل
تذويب الأعصاب المعروف بنظام زيارات الأسرى حيث تمتزج اللوعة بالمشقة
والاشتياق بأنين النفس تحت وطأة إذلالها وإرغامها على احتمال الكروب ونفي
الضجر من قاموسها في سبيل رؤية أسيرها ولو للحظات عابرة...
بل إن جموع المنتظرين من
الأطفال والنساء والآباء والأمهات استعذبوا واقعهم وعاشوا لحظاته بنفوس
مطمئنة لإيمانهم بأن الجهة الآسرة تعيش همهم فعلاً لا تنظيرا، وتصر على
شروطها الأولى رغم كل ما نالها من نكال وهي تمشي على الشوك وتنحت في الصخر
لتخضع المحتل وتذل عنجهيته وتسد في وجهه السبل إلا سبيل الرضوخ.
مع العيون المتحفزة ليوم
الحرية الأكبر والأجل والأجمل في تاريخ فلسطين تستعد أشجار الغار وتتزيا
بأبهى الحلل عسى أن يكون من نصيبها تزيين هامات من يستحقون التكريم في ذلك
اليوم، ومن سيكونون ملء سمع الدنيا وبصرها وهم يسجلون سابقة في تاريخ
فلسطين المعاصر بل في تاريخ ثورات التحرر كلها..
وفي غزة التي عجز العالم عن
فك لغزها وهي تحتفظ بفدية أسراها وحار في سرها الذي دفنته رمالها الوفية
في الأعماق.. فيها ستبنى جدر عالية في مدرسة الصمود الأولى وأكاديمية
الإصرار المتفردة وحصن الشموخ بلا منازع، وسيهرب المستحيل من دروبها وهي
تضفي على انتصارها الرباني في معركة الفرقان نصراً آخر يمد من عمر بقائها
ويردم حفر الغياب ونتوء القهر على مساحات شتى من الخارطة.
قد يبادر قائل للسؤال: لماذا
نكتب عن صفقة الحرية رغم أن نهايتها ما زالت في علم الغيب؟ ولماذا نستبق
الحدث بتوصيف تجلياته؟ وبأي منطق نؤمل آلاف العيون المترقبة قبل إنجاز
التبادل؟
ولكن.. ألا تشكل ثلاث سنوات
هي عمر عملية الوفاء للأسرى مدعاة لفخر دائم واستحضار أزلي لمعانيها
ودروسها الجليلة بالنظر إلى ظروفها المكانية (في سجن كبير اسمه غزة)
والزمانية (بُعيد اعتلاء حماس سدة السياسة التي ظن الجاهلون أنها ستصرفها
عن ميدان المعركة) وظروف تنفيذها وتعقيدات تطورها؟
ألا يكفي هذا النزف من خاصرة
غزة والذي ما توقف منذ اختارت أن تدفع من مهجة روحها ضريبة برّ حماس
بقسمها لأسراها لنوقن أن الفجر ولا شيء سواه (بإذن الله) سيكون في
الانتظار بعد اكتمال فصول هذه الحكاية؟ وأن الذين رهنوا أحلامهم لدى
القسام لن يخيب رجاؤهم ولن يطول عهدهم مع العتمة!